المصطلحات

معنى اليقين: دراسة من الأصول اللغوية إلى الأبعاد الروحية

هل سبقَ أن وقفْتَ أمامَ بحرٍ هادرٍ، فخَاطَبَكَ صمتُ الأمواجِ بِلسانِ اليقين؟ ذلك الشعورُ الذي لا يَخترقُهُ وَهْمُ الشكِّ، ولا يَهُزُّهُ اضطرابُ الظنونِ. اليقينُ… كلمةٌ تَحملُ في حروفِها سِرَّ الثباتِ، وتختزلُ في معناها صِراعَ الإنسانِ معَ المجهولِ. فما أصلُ هذه الكلمةِ التي تَنزِلُ كالنورِ على القلوبِ؟ وما دلالاتُها التي تَخْتَلِجُ العقولَ من الفلسفةِ إلى الدينِ، ومن الأدبِ إلى الحياةِ اليوميةِ؟ في هذا المقالِ، نغوصُ معًا في أعماقِ “اليقين”، نقتفي جذورَه اللغويةَ، ونستنطقُ شواهدَه في القرآنِ والفلسفةِ، لعلنا نُمسكُ ببعضِ أسرارِه التي تَمنحُ الحياةَ وضوحًا يُشبهُ وَضَحَ النهارِ.


الفصل الأول: أصلُ الكلمةِ.. حينَ تَخْطُو اللغةُ على وَتْرِ الزمنِ

إذا أردنا أن نَفهمَ “اليقينَ”، فلا بُدَّ أن نعودَ إلى مهدِه الأولِ: جذرِه الثلاثيِّ “يَقَنَ”. يقولُ ابنُ منظورٍ في “لسان العرب”: “اليَقينُ نقيضُ الشكِّ، وهو عِلمٌ ثابتٌ لا يُخالطُه تَوَهُّمٌ”. لكنَّ الكلمةَ لم تَخلُ من رحلةٍ دلاليةٍ؛ ففي الجاهليةِ، كانَ “اليَقينُ” يَعني زوالَ الشكِّ، كأنْ يُقالَ: “أيقنتُ الأمرَ” أيْ تَبيَّنَ لي. ومعَ الزمنِ، اكتسبَتْ نفحةً روحيةً، فصارتْ تُطلَقُ على الثباتِ القلبيِّ الذي لا يَتَزعزعُ. ولعلَّ الفرقَ بينها وبينَ “العلمِ” و”الإيمانِ” يَكمنُ في هذه النفحةِ: فالعلمُ قد يكونُ نظريًّا، والإيمانُ قد يَشوبه تَقليدٌ، أما اليقينُ فهو امتزاجُ العقلِ بالروحِ، كشجرةٍ تَضربُ جذورَها في أرضِ الحقيقةِ.


الفصل الثاني: المعنى اللغويُّ والاصطلاحيُّ.. بينَ حرفيةِ القاموسِ وعمقِ الفلسفةِ

في اللغةِ، اليقينُ هو “العلمُ الجازمُ الذي لا يَسكنُ إليه الشكُّ”، كما يُؤكدُ الزبيديُّ في “تاج العروس“. لكنَّ العبارةَ تَتشظَّى إلى معانٍ أعمقَ حينَ تَلِجُ أبوابَ الفلسفةِ وعلمِ الكلامِ. فها هو ابنُ سينا يَصِفُ اليقينَ بأنه “العلمُ الحاصلُ عن دليلٍ لا مِريةَ فيه”، بينما يَربطُه الغزاليُّ بالحالةِ الروحيةِ التي تَسمو فوقَ العقلِ، كقولِه: “اليقينُ نورٌ يُشرقُ في القلبِ، فتُبصرُ به الحقائقَ كما هي”. أما في مدرسةِ الأشاعرةِ، فاليقينُ هو ركنُ الإيمانِ الذي يَجمَعُ بينَ التصديقِ القلبيِّ والاستسلامِ. وهكذا، تَتحولُ الكلمةُ من حرفيةِ المعجمِ إلى مفتاحٍ يُطلُّ على عوالمَ لا تُرى بالعينِ.


الفصل الثالث: دلالاتُ اليقينِ.. مِنَ القرآنِ إلى فلسفةِ ديكارت

إذا أردنا أن نَلمسَ اليقينَ في أسمى صورِه، فما علينا إلا أن نَتلو قولَ اللهِ تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾. هنا، يَصوغُ القرآنُ اليقينَ كغايةٍ نهائيةٍ للعبادةِ، وهو ما فسَّره ابنُ كثيرٍ بأنه “الموتُ”، لأنَّ الموتَ هو اللحظةُ التي يَستوي فيها العبدُ معَ حقيقةِ خلقِه. لكنَّ الفلسفةَ الغربيةَ تَروي حكايةً أخرى؛ فديكارتُ، الذي قالَ “أشكُّ إذن أنا موجودٌ”، جعلَ الشكَّ طريقًا إلى اليقينِ، وكأنما اليقينُ هنا هو الجسرُ الذي يَعبرُ فوقَ نهرِ الشكوكِ. أما في الأدبِ، فالمتنبي يَصوغُ اليقينَ كفعلٍ بطوليٍّ: “إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرومِ ** فَلَا تَقنَعْ بما دونَ النُّجُومِ“، وكأنَّ اليقينَ هو الجُرأةُ على مُطاردةِ المستحيلِ.


الفصل الرابع: أقوالٌ تُضيءُ دربَ اليقينِ

  • “اليقينُ يُريكَ الأشياءَ على ما هي عليه”، هكذا لخَّصَ الإمامُ عليٌّ كرمَ اللهُ وجهَه جوهرَ اليقينِ.
  • أما أرسطو، فكانَ يرى أنَّ “اليقينَ ضربٌ من الجنونِ”، ربما لأنَّه يَدفعُ الإنسانَ إلى تخطِّي حدودِ المنطقِ.
  • وفي العصرِ الحديثِ، يقولُ ديباك شوبرا في كتابِه “قوةُ اليقينِ”: “اليقينُ ليسَ إجاباتٍ، بل هو السؤالُ الذي يَحمِلُكَ إلى حيثُ لا تحتاجُ إلى إجاباتٍ”.

أسئلةٌ تَبحثُ عن يقينٍ:

  • ما الفرقُ بينَ اليقينِ والإيمانِ؟
    الإيمانُ قد يكونُ تقليدًا أو وَراثةً، أما اليقينُ فهو إيمانٌ ناضجٌ تَكرَّسَ في القلبِ بعدَ اختبارٍ.
  • هل يُمكنُ أن يكونَ اليقينُ سلبيًّا؟
    نعم، حينَ يَتحولُ إلى تعصُّبٍ يَقْتُلُ التساؤلَ، كمنْ يَظنُّ أنَّ امتلاكَ الحقيقةَ مُطلقٌ.
  • كيفَ أصلُ إلى اليقينِ في حياتي؟
    ابدأْ بالسؤالِ، واقرأْ، وجرِّبْ، وستجدُ أنَّ اليقينَ ليسَ نقطةً تصلُ إليها، بل طريقًا تَسيرُ فيه.

الخاتمة:

اليقينُ… كلمةٌ تَبدو بسيطةً، لكنها تَختزنُ في حروفِها تاريخَ الإنسانِ معَ الحقيقةِ. مِن جذرِ “يَقَنَ” الذي نَبَتَ في صحراءِ اللغةِ، إلى أغصانِه الممتدَّةِ في فلسفةِ ديكارتَ وشعرِ المتنبي، يبقى اليقينُ شجرةً وارفةً تَظلِّلُ كلَّ باحثٍ عنْ معنى. فهل نَكتفي بكونِنا ظلالًا تحتَها، أم نَصعدُ إلى أعلى أغصانِها لِنرى العالمَ مِنْ علوِّها؟ ربما الإجابةُ تكمنُ في أنَّ اليقينَ ليسَ شيئًا نَمتلكُه، بل هو شيءٌ يَمتلكُنَا حينَ نُسلِّمُ لهُ بِقلوبٍ واعيةٍ.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى