المصطلحات

معنى الإنجيل: أصل الكلمة ودلالاتها بين المسيحية والإسلام

هل تعلم أن كلمة “الإنجيل” تحمل بين حروفها رحلةً عابرةً للقرون والثقافات؟ ليست مجرد مصطلحًا دينيًا، بل قصةٌ تبدأ من حكايات اليونان القديمة، وتعبر صحراء الشام، لتستقر في قلوب المؤمنين كتابًا مقدسًا أو وحيًا إلهيًا! إنها كلمةٌ تختزل صراعات اللاهوتيين، وحوارات الفلاسفة، وحتى جدليات المفسرين. فما أصل هذه الكلمة التي ألهبتْ خيال الشرق والغرب؟ وكيف اختلفت دلالاتها بين من يرونها “بشارة خلاص” ومن يرونها “كتابًا محرفًا”؟ دعنا نغوص في أعماق التاريخ واللغة لنكتشف معًا “معنى الإنجيل”، تلك الكلمة التي صاغتْ جزءًا من هوية البشر الروحية.


الفصل الأول: أصل الإنجيل.. رحلة الكلمة من اليونان إلى القرآن

الإنجيل في اليونان: “يُفَنجِليون”.. البشارة التي غيرت مصير البشرية

في القرن الأول الميلادي، كان اليونانيون يرددون كلمة “εὐαγγέλιον” (تُنطق: يُفَنجِليون)، مقطوعةً إلى مقطعين:

  • “εὖ” (تعني: خير)، و “ἄγγελος” (تعني: رسول).
    فكانت الكلمة تعني حرفيًا “الهدية التي يحملها المُبشِّر”، أو “الخبر المفرح الذي يغير مصير الإنسان”. وقد ارتبطت في الأساطير اليونانية بمكافأة الآلهة للبشر الذين ينتصرون في المعارك، لكن المسيحية المبكرة أعطتها بعدًا ثوريًا: أصبحت “بشارة الخلاص” التي جاء بها المسيح، كما ورد في إنجيل مرقس: «ابتدأ يسوع يُبشِّر بإنجيل الله ويقول: قد كمل الزمان!».

الإنجيل في العربية: كيف وصلت الكلمة من السريانية إلى القرآن؟

عبرت الكلمة حدود الإمبراطورية الرومانية إلى بلاد الشام، حيث نطقها السريان “ܐܘܢܒܠܝܘܢ” (إوانجليون)، ثم دخلت إلى العربية في القرن السابع الميلادي بصيغة “إنجيل”. ولعلَّ اللغويين اختلفوا في اشتقاقها:

  • فريقٌ رأى أنها مُعرَّبة عن اليونانية مباشرةً، دون تغيير جوهري.
  • وآخرون (كابن فارس في “مقاييس اللغة”) ربطوها بجذر عربي هو “نَجَلَ”، الذي يحمل معاني الظهور والوضوح، كأن الإنجيل هو “الوحي الذي نَجَلَ (ظهر) للحواريين”.
    لكن الرأي الأرجح – كما يرى الدكتور رمضان عبد التواب – أنها دخلت العربية عبر سلسلة لغات، حاملةً معها ثقلًا دينيًا حوَّلها من “خبر سار” إلى “اسم لكتاب مقدس”.

الفصل الثاني: معنى الإنجيل.. بين البشارة المسيحية والوحي الإسلامي

الإنجيل في المسيحية: الأناجيل الأربعة.. سيرة المسيح أم كلمات الرب؟

يُعرِّف اللاهوت المسيحي الإنجيل بأنه “العهد الجديد” الذي يحكي حياة المسيح وتعاليمه، لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا! فـ “الإنجيل” في أصله – كما يقول المؤرخ بارت إيرمان – كان “خطابًا شفويًا” يُلقيه الحواريون للتبشير بقيامة المسيح، ولم يُدوَّن في كتب إلا بعد قرن من وفاته. أما الأناجيل الأربعة (متى، مرقس، لوقا، يوحنا)، فهي – بحسب المجمع المسكوني عام 325م – رواياتٌ كُتِبَتْ بلغات مختلفة، جمعت بين السيرة الذاتية والعقيدة. يقول القديس أوغسطين: «الإنجيل هو المرآة التي ترى فيها البشرية وجه الرب».

الإنجيل في الإسلام: الوحي المُنزَّل والكتاب المفقود

يقدم القرآن رؤيةً مغايرةً تثير التساؤلات: فمن ناحية، يؤكد أن الإنجيل “كتابٌ أوحاه الله إلى عيسى” كدستورٍ للبشرية:

﴿وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ﴾ (المائدة: 46).

لكنه من ناحية أخرى – وفق المفسرين كالقرطبي – يرى أن الإنجيل الأصلي فُقِدَ، وحلَّت محله “أناجيل محرفة” كُتِبتْ بأيدي الرهبان. وفي هذا يقول ابن تيمية: «الإنجيل الذي بين النصارى ليس هو الإنجيل الذي أنزله الله، بل هو من تأليف البشر». لكن المفارقة هنا: كيف يكون الإنجيل مُحرَّفًا وفي الوقت نفسه يأمر القرآن المسلمين بالإيمان به؟! يجيب الرازي في تفسيره: «الإيمان بالإنجيل مقيد بما لم يُحرَّف منه»، أي أن القرآن يؤمن بوجود نصوصٍ صحيحةٍ باقيةٍ فيه.


الفصل الثالث: الإنجيل في الثقافة.. من الأدب العربي إلى حوار الأديان

الإنجيل في الأدب العربي: استعارة الخلاص من المتنبي إلى محفوظ

لم تكن “الإنجيل” مجرد مصطلح ديني، بل تحولت إلى استعارة أدبية. فالمتنبي – في مدح سيف الدولة – يقول:

*”وما الإنجيلُ إلاّ ضَـوءُ وجهكَ لا *مَـا قَـدْ وَرَدَتْ بهِ الأنبِيَاءُ المُرسَلُـونَ”

ليشبِّه جمال الممدوح بنور الإنجيل! أما نجيب محفوظ، فيروي في “أولاد حارتنا” كيف تحوَّل “الإنجيل” إلى رمزٍ للثورة على الظلم. حتى أن الشاعر أدونيس رأى في الإنجيل “نصًا مفتوحًا على تأويلات الوجود”.

الإنجيل في حوار الأديان: بين الاعتراف والصراع

رغم الخلافات، ظل الإنجيل نقطة لقاء: فالمسيحيون العرب – كما يذكر الأب جورج قنواتي – استخدموا كلمة “إنجيل” في صلواتهم العربية قبل الإسلام، بينما اعترف المسلمون – كالماوردي – بأن “في الإنجيل نبوءاتٍ عن محمد”. لكن الجدل استمر: فهل الإنجيل الحالي يحمل تلك النبوءات حقًا؟! هنا ينقسم المؤرخون: فريقٌ يرى – كـ د. محمد عمارة – أن النصوص الحالية مُزيفة، وآخرون – كالمستشرق مونتغمري وات – يرون أن الإسلام يتفق مع بعض مبادئ الإنجيل الأخلاقية.


الأسئلة الملحة عن الإنجيل: ما الذي يجب أن تعرفه؟

  1. هل الإنجيل كتاب واحد أم أناجيل متعددة؟
  • في المسيحية: أربعة أناجيل رسمية، وعشرات الأناجيل المرفوضة (كإنجيل توما).
  • في الإسلام: إنجيل واحد نزل على عيسى، لكنه مفقود.
  1. ما أشهر الاختلافات بين الإنجيل في الإسلام والمسيحية؟
  • المسيحيون: يؤمنون بألوهية المسيح (إنجيل يوحنا 1:1).
  • المسلمون: ينفون ذلك بناءً على القرآن: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾ (الزخرف: 59).
  1. كيف نقرأ الإنجيل اليوم بمنظور معاصر؟
  • بحسب البابا تواضروس الثاني: «اقرأوه بقلبٍ مفتوحٍ لسماع صوت الله».
  • وبحسب الشيخ الشعراوي: «اقرأوه بحثًا عن نقاط الاتفاق مع القرآن».

الخاتمة: الإنجيل.. كلمةٌ تبحث عن حوارٍ بين السماء والأرض

ليس “الإنجيل” مجرد كلمةٍ عابرة، بل هي لقاءٌ بين التاريخ والوحي، بين اليقين والجدل. إنها تعلمنا أن الكلمات – كالأديان – قد تختلف ظلالها، لكنها تظل تشير إلى نورٍ واحد: نور البحث عن الحقيقة. فهل نقرأ الإنجيل – أيًّا كان معتقدنا – كجسر لفهم الآخر، أم كسورٍ يعمق الفراق؟ الجواب – ربما – يكمن في أن نعود إلى الأصل اليوناني للكلمة: “البشارة”.. فالبشارة هنا قد تكون: أن الحوار بين الأديان ممكنٌ، إذا بدأنا من فهم معاني الكلمات قبل تحريفها بالصراعات.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى